الموسيقى للتعبير والتواصل... والمعالجة أيضاً!
تشكّل الموسيقى قدرة تعبيريّة تواصليّة أساسيّة لدى كلّ البشر، منذ وجود الإنسان، ما يجعلها لغة رئيسة غير لفظيّة إلى جانب اللغة اللفظيّة، وذلك منذ الأطوار الأولى للبشريّة. وهي تشكّل فنّاً راسخاً لجأ إليه الإنسان عبر العصور، إذ شكّلت الموسيقى جزءاً من طقوسه الدينية، واحتفالاته، ومنحته الراحة والسكينة في الأوقات العصيبة. ومع التقدّم في الدراسات العلميّة، تبيّن أنّ للموسيقى تأثيراً عميقاً على الدماغ وعبره على الجسم، ما جعلها تدخل في مجالات العلاج النفسي والطبي.
المعالجة بالموسيقى وصلت إلى لبنان كأحد التخصصات العلاجيّة النفسية والعصبيّة الحديثة، وبدأت نخبة من المعالجين بتطبيقه في الجمعيّات الأهليّة ومراكز الطب النفسي والعيادات الخاصة. لكن في ظلّ التحدّيات المستمرة من آثار العدوان والصدمات النفسية التي تثقل كاهل المواطنين، تبرز الحاجة إلى تقييم مدى فعالية هذا التخصص في تلبية الاحتياجات النفسية المتزايدة للمجتمع اللبناني.
الموسيقى للعلاج والتأهيل
في هذا الإطار، يشير كل من عميد "كلية الموسيقى وعلم الموسيقى" في "الجامعة الأنطونية" ومنسّق "شبكة الموسيقى وعلم الأعصاب والمعالجة" في "جامعة السوربون" البروفيسور نداء أبو مراد، والأستاذة روان الدمشقي، منسّقة "قسم المعالجة بالموسيقى" في "كليّة الموسيقى وعلم الموسيقى" في "الجامعة الأنطونيّة"، إلى أنّ المعالجة بالموسيقى هي عبارة عن استخدام للموسيقى بشكل ممنهج علمياً في سياقات علاجية وتأهيلية ضمن مجالات الطب النفسي والعصبي.
ويكشفان في حديث لـ "نداء الوطن" عن ثلاثة نماذج رئيسة للمعالجة بالموسيقى:
أولاً، النموذج التحليلي النفسي، الذي يستخدم الموسيقى لبناء علاقة علاجية نفسية مع المريض، وذلك عبر المعالجة الاستقبالية بالموسيقى (التي تعتمد على الاستماع للموسيقى لتهدئة المرضى أو تحفيزهم وفقاً لاحتياجاتهم العاطفية) والمعالجة النشطة بالموسيقى (التي تشمل إشراك المرضى في أنشطة موسيقية لتحرير المشاعر أو تحسين المهارات الحركية والإدراكية).
ثانياً، نموذج المعالجة الوظيفية بالموسيقى، الذي يركّز على التأثيرات المباشرة للاستماع إلى الموسيقى على الجهاز العصبي. ويُستخدم للحدّ من القلق والتوتر والألم، من خلال تحفيز إفراز الناقلات العصبية والهرمونات المهدئة مثل الدوبامين والسيروتونين والأندورفين، التي تعمل كمسكنات طبيعية لتحسين مزاج المريض وتخفيف الأعراض المرضية.
ثالثاً، نموذج المعالجة العصبية بالموسيقى، الذي يهدف إلى إعادة التأهيل من خلال الموسيقى في سياق الأمراض العصبية مثل فقدان القدرة على الكلام الناتج عن الجلطة الدماغية وأمراض التنكس العصبي (مثل باركنسون وألزهايمر) وطيف التوحد.
الحرب والمعالجة بالموسيقى
أما بالنسبة لكيفية إسهام المعالجة بالموسيقى في الحدّ من مخلّفات الحرب الحالية، فيشير أبو مراد والدمشقي أولاً إلى كون العدوان الإسرائيلي ترك آثاراً نفسية مدمّرة بطرق متعدّدة. فمن جهة، أسفرت الغارات المتتالية عن تفاقم حالات الصدمة النفسية، ومن جهة أخرى، عايش العديد من الأشخاص فقدان ذويهم أو تعرّضوا لإصابات جسدية ونفسية بالغة. ويتابعان أنّ هذا الواقع ولّد لدى اللبنانيّين شعوراً دائماً بانعدام الأمن والقلق والإجهاد النفسي، لا سيّما بين المواطنين الذين نزحوا عن منازلهم، كما عمّق من حدّة العزلة الاجتماعية، وأدى إلى تفاقم التوتّر المزمن، فضلاً عن تعزيز انتشار الاكتئاب.
ليس هذا فحسب، بل كشفا أنّ المعضلة الطبيّة النفسية الرئيسة الناجمة عن العدوان تتمثل في انتشار اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، بحيث يعاني الأفراد المتضرّرون من تكرار الذكريات المؤلمة، والكوابيس، والقلق المستمر. ويمتدّ تأثير هذه الصدمة إلى الآخرين عبر ما يُعرف بالعدوى النفسية، ما ينعكس سلباً على الصحة النفسية العامة للمجتمع.
بالتالي، وفقاً لهما، أسفر الانتشار الواسع للآثار النفسية، إلى جانب قصور البنية التحتية الصحية، عن صعوبة في توفير الدعم النفسي والعلاج الفعّال، ما سيترك آثاراً طويلة الأمد على قدرة المجتمع على التعافي.
وسيلة فعّالة للأطفال والبالغين
ويتابع أبو مراد والدمشقي موضحَين دور المعالجة بالموسيقى كوسيلة فعّالة للحدّ التدريجي من الآثار النفسية الخطيرة لاضطراب ما بعد الصدمة والإجهاد المزمن الناجمين عن العدوان. ويؤكدان أنّ المعالجة بالموسيقى توفّر أدوات فعّالة لتهدئة النظام العصبي المتأثّر، حيث تُظهر الأبحاث أنّ الاستماع الموجّه للموسيقى يُحسن مستويات الدوبامين (هرمون المتعة) ويقلّل من مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر)، مما يعزز التنظيم العاطفي والمرونة النفسية.
ويعتبر كلّ منهما، أنّ المعالجة النشطة بالموسيقى تسهم بشكل كبير في مساعدة المرضى على التعبير عن مشاعرهم المكبوتة، مما يوفر لهم منفذاً آمناً لمعالجة الذكريات المؤلمة. ويشيران إلى إمكانية دمج هذه التقنيات في برامج إعادة تأهيل خاصة بالأطفال والبالغين الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة أو من الإجهاد المزمن.
الموسيقى والعلاج الجماعي
أما على المستوى الجماعي، فيمكن للمعالجة بالموسيقى أن تلعب دوراً محورياً في تعزيز الروابط الاجتماعية، من خلال ورش عمل موسيقية جماعية تسهم في تقوية التضامن الاجتماعي ورفع الروح المعنوية.
ويختمان بالقول إن المعالجة بالموسيقى تُعد تخصصاً واعداً في لبنان وأداة فعّالة لمواجهة مخلّفات العدوان والأزمات المتراكمة منذ 2019، بما في ذلك انفجار مرفأ بيروت، ويمكنها تقديم حلول مبتكرة وميسّرة للتخفيف من المعاناة الفردية والجماعية.
كما كشفا عن قيام "الجامعة الأنطونية" حالياً بمبادرة لوضع مواردها في خدمة المجتمع، عبر تأهيل المعالجين الموسيقيين وتطوير برامج تهدف إلى الحدّ من الرواسب النفسية الناتجة عن العدوان، وذلك من خلال المعالجة بالموسيقى.
ستنتهي الحرب يوماً ما، ولكننا سنكتشف حينها فداحة تداعياتها على أكثر من صعيد. لذا، فالحكومة العتيدة مدعوّة منذ اليوم لإيلاء اهتمام خاص بأبنائها الذين عانوا ويلات هذه الظروف، وأن تتخذ التدابير اللازمة لتعبيد طريق الشفاء أمامهم، كي لا يختبروا ما مرّت به الأجيال السابقة من مآسٍ وآلام.





